"قرن من الصحافة" قرن من تاريخ لبنان
من 1858 إلى 1958 ماذا قالت الصحف؟
من 1858 إلى 1958 ماذا قالت الصحف؟
هذا التجوال بين الأعمدة في ساحة العجمي من أسواق بيروت، ليس نزهة في الحاضر في هذا المكان المرمم بعياقة وذوق، بل دعوة إلى عبور قرن من الزمن يروي تاريخ لبنان في صحفه من العهد العثماني إلى عصر الانتداب فعهد الاستقلال.
هذا المعرض التاريخي، الثقافي، الذي أرادته المؤسسة اللبنانية للمكتبة الوطنية استذكارا لقرن من الصحافة في لبنان، يثبت الدور الفعّال الذي لعبه رجال الصحافة على حقبات عديدة من تاريخ لبنان في تكريس الكلمة مدماكا للحريات.
هذه الصحف بورقها العتيق، بذاكرتها الزمنية الشاهدة على تاريخ مديد، ظل جزء كبير منها محفوظا من التلف في المكتبة الوطنية اللبنانية ومؤسسة المحفوظات الوطنية، بالرغم من الآثار الهمجية التي تركتها الحرب في هذه الذخيرة الثمينة إلى أن رأت النور في هذه المناسبة بإطلالة جديدة تضمن ديمومتها بفضل الوسائل التقنية الثورية الحديثة وتسهّل سبل الأبحاث والدراسات لطلاب الصحافة وإلى كل من يدفع به الحنين للعودة إلى هذه المدرسة مدرسة الصحافة التي رسمت خط التاريخ بأقلام كانت هي السلطة على مر ّالعقود، تصنع سياسة الوطن وحكامه، تضيء على مفكّريه وشعرائه.
من أين يبدأ الزائر جولته في ساحة العجمي المقابلة للبناء الأثري الذي منه كانت تصدر صحيفة "الأوريان"؟ الأعمدة التي عليها عرضت الصفحات الأولى من صحف لبنان، ملوّنة بالوان مختلفة، شرحت لي السيدة رنده الداعوق، العنصر الفاعل في المؤسسة اللبنانية للمكتبة الوطنية مع رفاق تطوّعوا بشغف ووفاء على مدى أشهر في تأهيل المكتبة الوطنية، أن المعرض قسّم عشريات، لكل عشرية لون عمودها، يدل المتجوّل إلى كل حقبة من الحقبات في ترتيب زمني، مستعينا بفهرس يضم إلى الصفحة الأولى من كل صحيفة، إسم مؤسسها والظروف التي ولدت فيها. بعد ذلك وبعد أن يكون مرّ على جميع العقود يتابع سيره ليصل إلى الدوريات اللبنانية الصادرة باللغات الأجنبية، ثم إلى صحافة الكاريكاتور من العهد العثماني إلى عهد الانتداب فعهد الاستقلال لينتهي المشوار المثير بأحداثه عند فن الاعلان الذي واكب الصحافة المكتوبة منذ العام 1913 وبصدور أول إعلان في جريدة لسان الحال.
إذا كان الفهرس رفيق درب المتجوّل فإن الكتاب الفاخر وعلى غلافه الصفحة الأولى من بيروت جريدة الولاية، هو وثيقة ثمينة لمئة سنة من الصحافة اللبنانية، جاء في مستهله، مقدمة لغسان تويني بعنوان الصحافة المتحررة من الزمن، يقول فيها:
"لا يسعنا ونحن ننظر إلى الصحافة اللبنانية التي صدرت عندنا خلال ما يزيد على قرن، إلا أن نستذكر بعض أعلام هذه الفئة من الناس الذين جرى في عروقهم الحبر محل الدم، وشبعوا بالورق الطازج أكثر من عيشهم بالخبز...".
نقلّب صفحات هذا الكتاب المالس كالحرير فتعبق رائحة الورق، ورق صحف ذات زمن. إنه أول وثيقة تضم صور الصحف اللبنانية بين 1858 إلى 1958 مع دراسة مكثّفة لتاريخها ونصوصها ورسومها الكاريكاتورية وإعلاناتها. الكتاب بعد أن يكون المعرض قد انتهى، هو المرصود لحفظ ذاكرة الوطن والكلمة الحرّة، بعده يجلس الزائر في الخيمة البيضاء، يتحلّى بقطعة شوكولاتة فيما يمر أمامه الفيلم الوثائقي الذي أخرجه بهيج عجيج بالتعاون مع رأفت عرب... على مدى عشرين دقيقة، نتبع عمليات ترميم الصحف برؤية هندسية حيّة، أرادت بها رأفت المتخصصة بالهندسة الداخلية و"الغرافيسم"، الخروج من جفاف الموضوع إلى تركيب صورمتحرّكة، سريعة المفعول في عين المشاهد، بعيدا عن المعالجة التقليدية للوثائق.
لكل حقبة إستعملت لونا، القاتم للعهد العثماني والمشمس للمتصرّفية والأزرق للأنتداب والمتفائل للاستقلال. "ففيما كنت أتنقل بفرح في هذه الحقبات كنت أتعلّم في آن تاريخ لبنان".
مي منسى جريدة النهار - طبع